«القمع العابر للحدود» أداة «الحكومات الاستبدادية» لتكميم أفواه المعارضة بالخارج
انتهاكات حقوق الإنسان تتخطى الجغرافيا
للمرة الثالثة خلال نحو 18 شهرا، تقدم سلطات هونغ كونغ على طرح مكافآت مالية مقابل الإدلاء بمعلومات تؤدي لاعتقال نشطاء معارضين يعيشون في المنفى بين أستراليا وبريطانيا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية، في إجراء يتجاهل المعايير الدولية وحق اللجوء.
والثلاثاء، أعلنت شرطة هونغ كونغ تخصيص مكافآت مالية قدرها مليون دولار محلّي (نحو 130 ألف دولار أمريكي) لمن يزودها بمعلومات تساعدها على اعتقال النشطاء الستة المتهمين بارتكاب جرائم تتعلق بالأمن القومي، قبل أن تتبادل الولايات المتحدة وبكين التحفظات والمخاوف.
ولم توقع أي من البلدان التي يعيش فيها المعارضون المطاردون حالياً وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا وكندا مع الصين أو سلطات هونغ كونغ (تتمتع بحكم ذاتي) أي معاهدات لتسليم المطلوبين.
وفي عام 2019 شهدت مدينة هونغ كونغ التي تعد مركزا ماليا عالميا اضطرابات عنيفة متزايدة، للمطالبة بمزيد من الحكم الذاتي، في أكبر تحدٍ من المستعمرة البريطانية السابقة لبكين منذ عودتها إليها في العام 1997، إذ انطلقت الاحتجاجات رفضا لقانون ينص على تسليم مطلوبين لبكين، ورغم سحبه لاحقا، توسعت الحركة وتحولت إلى معارضة للحكم الصيني للمدينة.
وبخلاف القانون الذي لم يستطع تحجيم الرفض الداخلي، لجأت هونغ كونغ لمواجهة الأصوات المطالبة بالديمقراطية والتي تتحصن بعدة دول غربية، بالملاحقة سواء برصد مكافآت مالية لاعتقالهم أو إلغاء جوازات سفرهم.
وردا على القرار الأخير نددت واشنطن بما سمته "قمعا عابرا للحدود" يهدد السيادة الأمريكية، إذ قال المتحدّث باسم الخارجية ماثيو ميلر في بيان إن الإجراء يمثّل "شكلا من أشكال القمع العابر للحدود الوطنية الذي يهدّد سيادة الولايات المتحدة وحقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس في جميع أنحاء العالم"، فيما ردت بكين على ذلك بأنها "لن تسمح بأي تدخل في شؤونها".
وأحصت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ما يقرب من 121 ألف صيني يطلبون اللجوء في منتصف عام 2023، ارتفاعًا من حوالي 15400 في نهاية عام 2012، وهو العام الذي تولى فيه السلطة نظام الرئيس الصيني، شي جين بينغ.
ربما لا يكون القمع العابر للحدود معروفًا على نطاق واسع، إلا أنه يشكل تهديدًا مستمرًا لحقوق الإنسان منذ عقود، إذ تتطلب هذه الظاهرة من الحكومات تجاوز حدودها لإسكات أو ردع المعارضة من خلال ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان ضد مواطنيها الحاليين أو السابقين.
وبخلاف عمليات القتل، تشمل أساليب القمع العابر للحدود، عمليات الإبعاد غير القانونية (الطرد والتسليم والإبعاد) الاختطاف والاختفاء القسري، واستهداف الأقارب، وإساءة استخدام الخدمات القنصلية، والقمع الرقمي العابر للحدود.
ووفق بيانات حديثة أصدرتها منظمة فريدوم هاوس (غير حكومية مقرها واشنطن)، فإن أكثر من 20 بالمئة من الحكومات الوطنية في العالم قد تجاوزت حدودها منذ عام 2014 لإسكات النشطاء السياسيين المنفيين، والصحفيين، والمقربين من النظام السابق، وأعضاء الأقليات العرقية أو الدينية.
وأضافت المنظمة أن حكومات 25 دولة مسؤولة عن 125 حادثة من حالات القمع الجسدي العابر للحدود الوطنية في عام 2023 وحده، بما في ذلك الاغتيالات والاختطاف والاعتداءات والاحتجازات والترحيل غير القانوني، كما شهد العام نفسه أول حالات موثقة ارتكبتها حكومات 6 دول وهي كوبا وجمهورية الكونغو الديمقراطية والسلفادور وميانمار وسيراليون واليمن، وكان أكبر 5 مرتكبين في عام 2023 هم حكومات روسيا وكمبوديا وميانمار وتركمانستان والصين.
وفي الفترة ما بين عامي 2014 و2023، سجلت منظمة فريدوم هاوس ما مجموعه 1034 حادثة مباشرة ومادية من القمع العابر للحدود الوطنية ارتكبتها 44 حكومة من حكومات البلدان الأصلية في 100 دولة مستهدفة.
وتحتل حكومات الصين وتركيا وطاجيكستان وروسيا المرتبة الأولى بين مرتكبي القمع العابر للحدود الوطنية بشكل عام منذ عام 2014، ويمثل نظام الصين بمفرده 25 بالمئة من جميع حوادث القمع العابر للحدود الوطنية الموثقة.
إيران
تعد إيران في صدارة الدول التي تنتهج سياسة القمع عبر الحدود، بدءا من المراقبة والاختطاف وحتى قتل المعارضين لما يقرب من 4 عقود، في ظل حكومات إيرانية متشددة و"براغماتية" على حد سواء.
ووقعت أول حادثة بارزة في يوليو 1989، عندما قُتل عبدالرحمن قاسملو في فيينا، وعقب ذلك بعامين اغتيل رئيس الوزراء السابق في عهد الشاه شابور بختيار في باريس، وفي عام 1992 وقعت إحدى الحوادث الأكثر شهرةً في برلين، حيث اغتال عملاء تابعون لـ"وزارة الاستخبارات والأمن القومي" ومسلحون من "حزب الله" اللبناني منشقين أكرادا إيرانيين في مطعم "ميكونوس".
وفي عام 1994، أفادت بعض التقارير بأن "الوزارة" تعاونت مع "فيلق القدس" التابع لـ"الحرس الثوري الإسلامي" لتفجير مركز "الجمعية التعاضدية الإسرائيلية الأرجنتينية" ("آميا") في بوينس آيرس، ما أسفر عن مقتل 85 شخصاً وإصابة 300 آخرين بجروح، واستمرت هذه الموجة من العنف المستهدف حتى نهاية رئاسة أكبر هاشمي رفسنجاني في عام 1997.
واستمرت عمليات قمع المعارضة خارج حدود الوطن في إيران حيث قتل في عام 2015 عملاء وزارة الاستخبارات والأمن القومي محمد رضا كلاهي صمدي، وهو عنصر في "مجاهدي خلق" اشتبه بتفجيره مقر "الحزب الجمهوري الإسلامي" في عام 1981.
وفي عام 2017، زُعم أن عملاء "الوزارة" في إسطنبول قتلوا سعيد كريميان، صاحب قناة تلفزيونية فضائية، وفي العام التالي ألقى "مكتب التحقيقات الفيدرالي" الأمريكي القبض على مجموعة من المواطنين الذين يحملون الجنسية الأمريكية والإيرانية المنتسبين إلى "الوزارة"، واتهمهم بمراقبة مراكز يهودية وأعضاء في حركة "مجاهدي خلق" بصورة سرية.
وفي العام نفسه، حاول عميل تابع لـ"الوزارة" تحت ستار دبلوماسي إيراني زرع قنبلة في تجمّع لمنظمة "مجاهدي خلق" في باريس، وفي عام 2019، قتل مسعود مولوي وردنجاني، وهو مسؤول سابق في "الوزارة" كان قد انشق عنها وهرب إلى تركيا، وكانت عمليات الخطف متفشية أيضاً، حيث اختطف المنشق جمشيد شارحد في دبي عام 2020؛ وبعد 3 أشهر اختطفت حبيب شعب، وهو زعيم انفصالي من أصل عربي إيراني في تركيا.
رواندا
وثقت منظمة هيومن رايتس ووتش (غير حكومية مقرها نيويورك) 5 حالات قتل و3 حالات اختطاف ومحاولات اختطاف و6 حالات على الأقل من الاعتداءات الجسدية والضرب، بعضها بدا وكأنه محاولات قتل على المقيمين الدائمين الروانديين واللاجئين وطالبي اللجوء في كينيا وموزمبيق وجنوب إفريقيا وتنزانيا وأوغندا، وذلك في عام 2017 الذي فاز فيه كاغامي بأغلبية ساحقة بولاية ثالثة بنسبة 98.8 بالمئة من الأصوات.
وأوضح تقرير المنظمة الحقوقية أنه "خلال استهداف المعارضين الفعليين أو المفترضين في الخارج وأقاربهم، انتهكت السلطات الرواندية مجموعة من الحقوق بما في ذلك الحياة، والخصوصية، وحرية التعبير وتكوين الجمعيات، والسلامة الجسدية، وحرية التنقل، والحرية من التعذيب، والحق في محاكمة عادلة".
أوغندا
وفي نوفمبر 2024، اختطف المرشح الرئاسي السابق المعارض الأوغندي، كيزا بيسيجي، من كينيا، إذ قالت منظمة العفو الدولية (غير حكومية مقرها لندن) إن هذه “ليست المرة الأولى التي يتم فيها اختطاف معارض أجنبي على الأراضي الكينية”.
ووفق المنظمة فإن زعيم حزب منتدى التغيير الديمقراطي، الذي مثل أمام محكمة عسكرية في العاصمة كامبالا أمس الأربعاء، جرى خطفه من نيروبي بكينيا في 16 نوفمبر.
ووصف تيغيري شاغوتا، المدير الإقليمي لمنظمة العفو الدولية في شرق وجنوب إفريقيا، الحكومة الأوغندية بأنها "تتمتع بسجل حافل من القمع المنهجي للأحزاب السياسية المعارضة من خلال عمليات الاختطاف والاعتقال التعسفي والاحتجاز غير القانوني بتهم ملفقة.
انتهاكات مستمرة
بدوره يرى الخبير السياسي والباحث في الشؤون الآسيوية، إسلام منسي، أن العديد من الحكومات تتجاوز حدودها الجغرافية وترتكب انتهاكات حقوقية ضد مواطنيها الحاليين أو السابقين لإسكات المعارضة أو ردعها، وهو ما يسمى بـ"القمع العابر للحدود".
وأوضح منسي في تصريح لـ"جسور بوست" أن القمع العابر للحدود هو خطر حقيقي على حقوق الإنسان ويتطلب تضافرا لجهود المنظمات الدولية والأمم المتحدة، وإعطاء الأولوية لاحترام حقوق الإنسان والدفاع عن حقوق الجماعات والأفراد المتأثرين.
وأشار الخبير السياسي إلى أن بعض الدول تتفاخر بأنها قبضتها تطول المعارضين في كل أنحاء العالم، وهناك أمثلة كثيرة لهذه الملاحقات لإثبات أن القبضة القوية للأنظمة السياسية بالداخل ستطول الخارج أيضا، قائلا: "القمع العابر للحدود تهديد حقيقي لحقوق الإنسان".
ومن جانبه أشار الناشط الحقوقي التونسي كريم عبدالسلام، إلى الازدواجية في التعامل مع القمع العابر للحدود، إذ تنتقد الولايات المتحدة هذه الممارسات بينما هي الأكثر رصدا للمكافأة في ملاحقة أي شخص لا يتفق مع مصالحها.
وأوضح عبدالسلام في تصريح لـ"جسور بوست" أن الولايات المتحدة لديها قائمة، ولا تكتفي برصد المكافآت لمن يلقي القبض على معارضيها في الخارج، بل لمن يأتي برؤوسهم وذلك تحت مظلة الإرهاب أو الجريمة المنظمة أو أي تسمية أخرى.
وشدد الناشط التونسي على أهمية أن يواجه أي شخص معارض أو غيره بمحاكمة عادلة معلنة قابلة للطعن، ثم إصدار أحكام نهائية ثم إرسال الأمر للإنتربول الدولي للتوقيف، مع أهمية الحفاظ على سلامته وحقه في إعادة محاكمته.
واختتم حديثه بعبارة أن "الولايات المتحدة تقع في تناقض كبير لأنها تخالف ما تدعو له، لأنها تلاحق المعارضين ولا تدعم المسارات الديمقراطية في الكثير من الأحيان".